تونس-افريكان مانجر
اثار مشروع قانون المصالحة الوطنية المعلن عنه من قبل رئاسة الجمهورية الكثير من الجدل الذي سيتواصل إذا ما لم يقع سحبه على حدّ تعبير القاضية المتقاعدة ليلى بحريّة في تصريح لـ “أفريكان مانجر”. فما هي خلفية هذه المبادرة التشريعية ومدى دستورية مشروع القانون من عدمه ومدى استجابته للأهداف التي قامت من اجلها الثورة؟
وفي هذا الإطار، أوضحت محدّثتنا أنّ مشروع القانون المذكور لم يكن مفاجئا ولا مسقطا فقد سبقته حملة إعلامية ممنهجة لشيطنة هيئة الحقيقة والكرامة والدعوة إلى تغيير تركيبتها والى تنقيح قانون العدالة الانتقالية والحديث مطولا عن المصالحة الوطنية بهدف القفز على أهم مراحل العدالة الانتقالية ألا وهي كشف الحقيقة والمحاسبة وجبر الضرر انتهاء للمصالحة وطي صفحة الماضي والتوجه إلى مستقبل أفضل بعد إصلاح المؤسسات ووضع التشريعات اللازمة لعدم العودة إلى الماضي باستبداده وفساده.
مدى دستورية مشروع قانون المصالحة
وأضافت بحريّة أنّ تلك الحملة احتدمت بعد تغير الموازين السياسية اثر الانتخابات الأخيرة واستعادة المنظومة القديمة ثقتها في إمكانية نجاحها في نسف ما تبقى من وهج الثورة ومكتسباتها هذه الثورة التي قامت على الاستبداد والفساد على أمل إرساء دولة يسود فيها القانون وتحترم فيها الحقوق والحريات وتتحقق فيها الرفاهة للجميع فكان الإعلان عن حالة الطوارئ للتصدي لكل حراك اجتماعي او نقابي وللتضييق على حرية الإعلام والتعبير وصولا الى عرض هذه المبادرة التشريعية دون ان ننسى مشروع قانون زجر الاعتداء على القوات المسلحة وقانون المجلس الأعلى للقضاء والتي تصب كلها في باب محاولة الرجوع بقوة الى دولة الاستبداد والفساد.
وبخصوص مدى دستورية مشروع القانون المذكور، قالت ليلى بحريّة إنه تحسبا لمخاطر الالتفاف على العدالة الانتقالية وضع المجلس الوطني التأسيسي في باب الأحكام الانتقالية وتحديدا صلب الفصل 9-148التزاما على كاهل الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدة المحددة لها بالتشريع المتعلق بها كما تضمنت توطئة الدستور ‘ وقطعا مع الظلم والحيف والفساد’ علما بان التوطئة جزء لا يتجزأ من الدستور طبقا للفصل 145منه ووفقا لما يقتضيه الدستور ومتطلبات الثورة صادق المجلس الوطني التأسيسي على قانون العدالة الانتقالية لمعالجة الماضي.
وفي سياق متّصل، بيّنت محدّثتنا أنّه من بين الانتهاكات التي عددها القانون الأساسي للعدالة الانتقالية تلك المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام كما أحدثت بموجب القانون المذكور لجنة التحكيم والمصالحة صلب هيئة الحقيقة والكرامة ومن مشمولاتها النظر في مطالب الصلح في ملفات الفساد المالي، مبرزة أنّ القانون الأساسي للعدالة الانتقالية قد نص بان المصالحة الوطنية تهدف إلى تعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق العدالة والسلم الاجتماعية وبناء دولة القانون وإعادة ثقة المواطن في مؤسسات الدولة ولا تعني المصالحة الإفلات من العقاب وعدم محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، كما لا يفوتنا على حدّ تعبيرها التنويه بان لتونس التزامات دولية بموجب مصادقتها منذ سنة 2008 على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، متسائلة هل ان تبييض المفسدين يدخل تحت طائلة مكافحة الفساد وهل تستجيب هذه المبادرة التشريعية إلى أهداف الثورة والى الأحكام والمبادئ الأساسية التي تضمنها الدستور؟
مشروع في ظاهره يكرس عدالة تصالحية
وفي هذا الإطار، قالت القاضية بحريّة إنّه جاء في شرح الأسباب بان مشروع القانون هو تدعيم للعدالة الانتقالية في مجال الانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام ووضع نظام فعال لمعالجة هذه الانتهاكات يفضي إلى غلق الملفات المتعلقة بها نهائيا وطي صفحة الماضي تحقيقا للمصالحة باعتبارها الغاية السامية للعدالة الانتقالية وبان المشروع يكرس عدالة تصالحية مع الحفاظ على كشف الحقيقة وجبر الضرر المالي ويضيف الفصل الأول من مشروع القانون بان الهدف منه هو تهيئة مناخ ملائم يشجع على الاستثمار ويعزز الثقة في مؤسسات الدولة.
وأضافت أنّ هذا ما يعبر عنه بالسم في الدسم وفق تعبيرها، اذ بدعوى تدعيم العدالة الانتقالية يقع نسف هذه الأخيرة من أهم مقوماتها المتمثّلة في كشف الحقيقة والمحاسبة ويتضح ذلك من خلال تركيبة ما سمي بلجنة المصالحة المنصوص عليها بمشروع القانون والتي يترأسها ممثل عن رئاسة الحكومة مع عضوية ممثل عن كل من وزارتي العدل والمالية والمكلف العام بنزاعات الدولة وعضوين من هيئة الحقيقة والكرامة وهذه من المضحكات المبكيات على حدّ تعبيرها ,اذ يقع الالتفاف على صلاحيات هيئة دستورية مستقلة وتعيين عضوين منها في لجنة غير مستقلة تعمل خلف ابواب مغلقة فاين نحن من كشف الحقيقة.
كما أشارت محدّثتنا أنّه تحسبا لرفض الهيئة لهذا المشروع تضمن هذا الاخير بان عدم تعيين عضو او اكثر باللجنة لا يحول دون تكوينها شريطة الا يقل عدد أعضائها عن الأربعة وهذا النصاب متوفر حتما كما يتجرا مشروع قانون المصالحة على الغاء جميع الاحكام المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام الواردة بقانون العدالة الانتقالية وذلك في خرق واضح للفصل 148 من الدستور الذي يلزم الدولة بتطبيق العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها أي بما في ذلك الانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام.
مشروع قانون المصالحة يندرج في سياق الالتفاف على العدالة الانتقالية
ومن هذا المنطلق، يتضح حسب تقدير ليلى بحريّة بان مشروع قانون المصالحة يندرج في سياق الالتفاف على العدالة الانتقالية وتبييض المتورطين في الفساد المالي والاعتداء على المال العام والذين ساهموا زمن المخلوع في نهب ثروات البلاد وتدمير البلاد وخلافا لما جاء في مشروع القانون فان تهيئة المناخ الملائم للاستثمار والنهوض بالاقتصاد الوطني لا يكون من خلال تقنين الافلات من العقاب بل من خلال فتح الملفات وكشف الحقيقة والمحاسبة وجبر الضرر سواء للافراد او للجهات المتضررة من الانتهاكات في المجال المالي وكذلك من خلال اصلاح المؤسسات ووضع التشريعات التي من شانها ضمان شفافية المعاملات في المجال الاقتصادي والمالي وبذلك فقط تبنى ثقة المواطن عامة والمستثمر خاصة في مؤسسات الدولة.
كما أضافت ان مشروع القانون لم يبين الآليات الكفيلة بتوفير المناخ الملائم للاستثمار وبناء ثقة المواطن في مؤسسات الدولة وهو امر غير مستغرب باعتبار ان خلفية هذا المشروع هي طمس حقيقة الانتهاكات في المجال المالي والاعتداء على المال العام وغلق الملفات المتعلقة بها نهائيا ليواصل من نهب البلاد قبل الثورة نفس الممارسات ، مبرزة انه مشروع على غاية من الخطورة وفيه خرق واضح وفاضح للدستور وللالتزامات الدولية لتونس مما يستوجب التصدي له.
واختتمت القاضية بحريّة ان الانتقال الديمقراطي مسار معقد ويتطلب بالضرورة عقودا من الزمن ويعرف حتما انتكاسات ولكن المهم هو الوصول الى تفكيك المنظومة القديمة لبناء الدولة الجديدة باليات تضمن عدم العودة الى الوراء ومما يعقد هذا الانتقال ان المستفيدين من تلك المنظومة لا يتوانون عن محاولات تعطيل عملية البناء خاصة انهم متغلغلون في كل مفاصل الدولة وفي كل القطاعات علاوة على تشتت القوى المؤمنة بالثورة وعدم وضوح الرؤى لديها بالقدر الكافي لتكون فاعلة.